قضية اوترو Outreau
القضية الاكثر كارثية في تاريخ القضاء الفرنسي. القضية التي هزت المؤسسة القضائية والرأي العام, والتي ما زالت نتائجها تتفاعل الى اليوم.
عليها ترتبت وعود بإصلاح الاجراءات الجزائية, بإعادة النظر بقضاء قاضي التحقيق, كما تشكلت لجنة برلمانية للتحقيق في "القضية الفضيحة". تدخل في أعمالها كبار المسؤولين السياسيين. وكبار الحقوقيين.
"كارثة قضائية غير مسبوقة". جاك شيراك في رسالة لمن برأتهم المحكمة في تلك القضية .5 ديسمبر 2005
"اوترو ام الرعب القضائي ؟ " فليب بيلجر المحامي العام في محكمة استئناف باريس.
"الاطفال لا يكذبون". فابريس بيركود قاضي التحقيق في قضية اوترو
قضية اوترو ولّدت الشك بالعدالة, وعليه يجب العمل على تحويل هذا الشك الى ثقة كاملة" ايف بوت المحامي العام لدى محكمة الاستئناف بباريس 30 نوفمبر 2005.
" مثل الكثير من الفرنسيين هزتني عميقا المعاناة التي نتجت عن قضية اوترو, معاناة الاطفال المغتصبين والمعذبين. معاناة بعض المتهمين الذين تمت تبرئتهم بعد معاناة في السجون ..اريد ان افهم ما حصل. لا اريد ان يتكرر هذا. وعليه فقد قررت فتح ابواب عديدة للاصطلاح" . وزير العدل في مؤتمر صحفي.
مرة اخرى نقدم للقارئ خطأ قضائيا تقع فيه العدالة (لم يُعترف بالقضية على انها خطأ بالمعنى القانوني للكلمة. وانما Dysfonctionnement judiciaire خلل وظيفي في سير القضاء ) في بلد لا يمكن الاعتراف بان القضاء فيه غير متقدم ومتطور ويسعى لمزيد من المهنية والاتقان, عن طريق اعداد أفضل للكادر القضائي, وتوفير الامكانيات المادية اللازمة لتحسين العمل القضائي والاداري للمحاكم. وتدعيم استقلال القضاء.. اصلاح الاجراءات الجزائية واعادة النظر في مؤسسة قاضي التحقيق.... ومع ذلك تقع العدالة, في الخطأ بين حين واخر, باعتبارها من صنع الانسان, والانسان خطّاء. ويبقى القضاء الة بطيئة الحركة ثقيلة تطحن احيانا الابرياء.
يلاحظ جاك فرجاس, ان في " كتيب الدليل العملي للعدالة لا توجد كلمة "الحقيقة", ولا كلمة "الخطأ". مؤسسة العدالة مقتنعة بانها لا تخطئ ابدا. عندما تؤكد محكمة النقض cour de cassation قرارا اتخذته محكمة الاستئناف يصبح هذا القرار وكأنه التعبير عن الحقيقة. يمكن اليوم التندر حول عصمة البابا. ولكن التندر حول عصمة القاضي تعرض صاحبها للعقوبة". (Malheur aux pauvres ).
مضيفا , اذا سئلت رجلا محترما ما هو هدف الدعوى الجزائية ؟ فانه سيجيب تسع مرات من عشرة: البحث عن الحقيقة حتى تكون العقوبة عادلة. وهو في هذا يخطئ تسع مرات على عشرة. هدف الدعوى الجزائية هو قبل كل شيء الدفاع عن النظام العام المهدد بفعل الجريمة.
ونضيف نحن ان النظام العام في الدولة الديمقراطية غيره, في مفهومه ومحتواه وفي شكله, في الدولة الشمولية الاستبدادية. في مثل هذه الدولة التي لا فصل فيها للسلطات, النظام العام هو لحماية السلطة ونظامها السياسي واصحاب النفوذ والاثرياء الجدد, وليس لحماية الدولة والمجتمع وحقوق الانسان. تحدده قوانين الطوارئ . وتحميه المحاكم الاستثنائية والعسكرية التي يقف امامها المدنيون دون دفاع فعلي, وبتهم غالبا ما تكون ملفقة ودون اساس. لا يذهب احد اليها مطالب بعدالة أو جلاء حقيقة, وانما يُساق اليها سوقا لنيل جزاء يراد منه ان يكون عبرة للغير ودرسا مخيفا للبريء قبل المذنب.
لا مجال في مثل هذه الدولة للحديث عن الخطأ القضائي, ولا المجازر القضائية المرتكبة من قبل تلك المحاكم غير المختصة, غير النزيهة, وغير المستقلة. ولا عن بحث عن الحقيقية, فهذه نفسها ضحية, مثلها مثل المتهم المدان سلفا قبل وقوفه اما القاضي الذي ليس هو قاضيه الطبيعي. ومع ذلك فالمحاكم المختصة والقضاة النزهاء يبحثون عن الحقيقة في القضايا التي تعرض عليهم ولكن لا علاقة لها بما يمس مصالح السلطة المادية والمعنوية من قريب او بعيد, او المصنفة على انها خطر على "الرأي العام". ولا بد من التنويه بكفاءة ونزاهة ومهنية الكثير الكثير من قضاتنا في العديد من الاقطار العربية. فمعاناة هؤلاء في المؤسسة القضائية غير المستقلة معاناة مزدوجة متولدة ليس فقط عما تلحقه بهم شخصيا كقضاة وكأفراد, وانما كذلك عما يلحقونه هم انفسهم, وبعلمهم, بالمتقاضين امامهم.
كان لا بد من الاشارة منا لبعض هذه الامور قبل عرض قضية اوترو والخطأ القضائي, حتى لا يقول ابواق الدولة الشمولية: وعندهم ايضا يخطئ القضاء. تشبهوا !!!. متناسين ان في دواتهم هذه لا أحد يتحدث عن خطأ قضائي, او مجزرة قضائية, ولا يتحرك الراي العام ,ولا وسائل الاعلام. لأن لا أحد يرغب , ان فتح فمه, في ان تطاله مجزرة, غالبا ما تكون غير قضائية.
بدأت قضية اوترو عام 2000 في بولونيا سير مار في با دي كاليه - Mer Boulogne – sur
الوقائع:
بناء على طلب مقدم من السيدة مريم باداوي بتاريخ 25 فيفري 2000 تدعي فيه ان زوجها تيري ديلاي يستعمل العنف ضد اولادهما الاربعة امر على اثره قاضي الاحداث وضع الاولاد الثلاثة لدي اسرة استقبال , وكان قد وضع سابقا الولد الرابع وهو الاكبر لدى اسرة استقبال بتاريخ 30 جوان 1995 . وقد تكفلت ادارة مصلحة خدمة الاحداث بمدينة بادي كاليه باستقبال الاولاد المذكورين. وأعطى حق زيارة والديهما لهم, على امل عودتهم اليهما خلال العام نفسه.
لكن ما اعترف به احد هؤلاء الاولاد للمساعدة الاجتماعية بانه يخاف عند عودته من ضرب والده له. وما قاله الاطفال الاخرون لها بان والديهما يجبرونهم في المنزل على مشاهدة افلام اباحية, ومشاهدة العلاقات الجنسية بينهما , نبه ادارة مصلحة رعاية الاحداث الى خطورة عودة الاولاد الى منزل والديهما.
وبناء على اعترافات متلاحقة بهذا المعنى بلغت الادارة وكيل الجمهورية Procureur de la République الذي امر بفتح تحقيق قضائي وبمنع استضافة والدي الاولاد في مكان الاستقبال . واستمرت اعترافات الأولاد للمساعدة الاجتماعية عن اعمال العنف ضدهم و العلاقات الجنسية التي ادخلهم بها والديهما . كما اعطوا اسماء اشخاص يسكنون نفس العمارة متورطين هم ايضا بالاعتداءات الجنسية عليهم. وقد بُلّغت النيابة بهذه الاعترافات فورا.
فتح تحقيق
قرر وكيل الجمهورية تكليف مفتشية شرطة بولولنيا سير مار بالقيام بتحقيق اولي préliminaire واستمعت الشرطة القضائية لمسؤولي المركز الذي يقيم فيه الاولاد المذكورين وللمربين وللمساعدات الاجتماعيات. كما استمعت الشرطة القضائية المتخصصة في قضايا الاحداث للأطفال الاربعة, واعلنت بان هؤلاء تعرضوا للعنف والاعتداءات الجنسية من قبل والديهما. في جلسات استماع لاحقة ادلى الاطفال بأسماء اشخاص اخرين متورطين, من بينهم اطفال.
جرى توقيف الوالدين في 20 فيفري 2001. وتم تفتيش منزلهما وحجز افلام رعب وافلام خلاعية وادوات جنسية.
خلال فترة الحجز garde-à-vue انكر الاب تيري ديلاي ما ذكره اولاده, واتهمهم بالكذب . كما انكرت ذلك امهم مريم باداوي.
في 22 من الشهر المذكور حول الابوين الى النيابة التي اسندت القضية الى قاضي تحقيق شاب هو فابريس بيركود Fabrice Burgaud (اسم سيبقى طويلا في سجل تاريخ القضاء الفرنسي).
التجأ الاب الى الصمت امام القاضي المذكور بعد انكاره كل التهم الموجهة اليه. في حين ان الام بدأت تعطي تصريحات متتالية. مؤكدة اقوال اولادها , ومتهمة زوجها بممارسة العنف ضدهم. بعد جلسة الاستماع وعلى ضوء الاعترافات اعتبر الزوجان مشتبه بهما.
خلال 9 اشهر من عام 2001 مثل الزوجان وابناؤهم امام القاضي في جلسات استجواب عديدة. لم يتهم فيها الابناء غير والديهما . ثم بدأوا لاحقا بذكر اسماء اشخاص اخرين , على أنهم ساهوا في ممارسة العنف ضدهم, واعتداءات جنسية , متورط فيها اطفال, يزيد عددهم على 20 من سكان البناية. واكدت الام اقوال ابنائها. كان مجموع من تم الاشتباه بهم بالمشاركة باستعمال العنف والاعتداءات الجنسية في هذه القضية 80 شخصا. وقد تحولت القضية من اعتداء على المحارم الى قضية شبكة انحراف جنسي.
وعليه قرر قاضي التحقيق الشاب احتجاز العديد من جيران عائلة ديلاي كمشتبه فيهم . أنكر جميع الاشخاص المحتجزين كل الافعال المنسوبة اليهم. لكن قاضي التحقيق كان مقتنع بمقولة ان "الاطفال لا يكذبون".
لم تتوقف مريم باداوي خلال جلسات التحقيق عن اعطاء اسماء جديدة. وقد زادت خطورة المعلومات التي قدمتها هذه الاخيرة لقاضي التحقيق عند قولها ان بعض الاطفال كانوا يقتادون الى مزرعة تقع في بلجيكا. وان العديد من الاشخاص اصحاب المراكز المرموقة كانوا يذهبون لهناك للاعتداءات الجنسية على الاطفال.
جعلت هذه الاعترافات قاضي التحقيق مقتنع بان القضية متعلقة بشبكة واسعة من الانحراف الجنسي. رغم ان الشرطة البلجيكية اكدت بان لا توجد في بلجيكا اية شبكة من هذا النوع بقولهم للمحققين الفرنسين "بانهم سوف لا يستمرون في التحقيقات" التي لا تستند على اساس. لم يخفف هذا من قناعة قاضي التحقيق الفرنسي بان الامر متعلق ب "قضية القرن". موسعا مجال تحقيقاته. تجاوزت تحقيقاته سكان العمارة التي تقيم فيها عائلة ديلاي و بدأت تتسع لتطال اناسا مرموقين في المنطقة. وفي شهر اكتوبر 2001 تم توقيف وحجز 6 اشخاص اخرين هم: الان مارسوا محضر قضائي وزوجته اوديل ممرضة اجتماعية, دومينيك وايل رجل دين مسيحي. بيار مارتال سائق سيارة اجرة. والسيد ليكراند وابنه.
أخذت الصحافة ووسائل الاعلام تتحدث عن شبكة انحراف جنسي. وتسربت اسماء عديدة الى الصحافة.
تناقضات واعترافات كاذبة:
منذ المرحلة الاولى للتحقيق بدت بعض الاتهامات غير جادة. فدانيال لوكراند لم يكن كما جاء في الاتهام صاحب محل لبيع الادوات الجنسية. او اشرطة وافلام انحراف جنسي. او مستأجر لمزرعة في بلجيكا. فهو اب لخمسة اطفال ويكسب من عمله 1230 يورو شهريا , وينام في سيارته منذ ان فقد سكنه. ولم يجد المحققون اي دليل مادي ضده يبين انه في شبكة منحرفين. ولا يوجد في بلجيكا اي دليل على انه مالك مزرعة فيها. ومع ذلك بقي قاضي التحقيق مقتنع بوجود شبكة المنحرفين.
تحت ضغط قاضي التحقيق في الجلسات المتعددة بدأ العديد من المشتبه بهم يدلون باعترافات كاذبة. وهذا ما رواه لاحقا لوكراند الابن الذي عبر عن وضعه بقوله : " كنت اقضي ايامي الطويلة محاولا ان افهم كيف لا ناس لا أعرفهم يمكن ان يتهموني بمثل هذه التهم. كيف يمكن لاسمي ان يصل الى مكتب القاضي".
لقد وجد دانيال لو كراند نفسه متورطا عندما ذكر احد ابناء ديلاي اسم داني لوكراند. السيدة مريم باداوي هي التي اتهمت لوكراند الاب والابن دون اية معرفة بهما. ولم تستند التهمة على اي دليل مادي, وحسب لوكراند الابن فان القاضي نفسه هو من نطق امامها باسمه . وذكّر دائما بانه يسمى دانيال وليس داني.
تدخل وسائل الاعلام:
فكر دانيال لوكراند الايقاع بمريم باداوي وكشف ادعاءاتها الكاذبة فارسل رسالة لقاضي التحقيق يؤكد فيها بانه حضر حادثة اغتصاب وقتل فتاة بلجيكية في شقة عائلة ديلاي . واتهم تيري ديلاي بذلك (زوج مريم باداوي ) وارسل في الوقت نفسه نسخة عنها لقناة فرنسا 3 في شمال با دي كاليه واذيع ذلك قبل ان يتمكن القاضي المذكور التأكد من مضمون الرسالة. اهتمت وسائل الاعلام فورا بمضمون الرسالة وتناقلتها كل المحطات .
نجح دانيال بالإيقاع بالشاكية الرئيسية في القضية باختلاقه هذه القصة الوهمية في كل تفاصيلها , فقد اعترفت هذه الاخيرة بصحة الرواية المختلقة, وبدا التفتيش في كل مكان عن الجثة دون جدوى.
في 19 فيفري 2001 اعترف دانيال لمكراند لقاضي التحقيق ان جريمة القتل مختلقة وهو الذي اخترع القصة بكاملها ليظهر للجميع كذب ادعاءات ماري باداوي.
دون ان يملك قاضي التحقيق اي دليل مادي على مصداقية ادعاءات ماري باداوي, لم يشك في اعترافاتها التي ادلت بها في جلسات الاستجواب.
في النهاية وجه لثمانية عشر شخصا تهم الاغتصاب والاعتداءات الجنسية على قاصرين. 3 مدعين رئيسيين بينهم مريم بيلاي اعترفوا بما نسب اليهم .بينما استمر تيري بيلاي في انكار أي تورط له في الاغتصاب. كما انكر الاربعة عشر شخصا من المشتبه بهم كل علاقة لهم بالاتهامات واعلنوا براءتهم فاضرب بعض منهم عن الطعام. وانتحر احدهم في السجن وهو فرنسوا مورماند وعمره 33 عاما بعد 14 شهرا من السجن. كل هذا لم يغير في شيء من قناعة قاضي التحقيق. فاعلن بعد 18 شهرا من التحقيقات , انتهاء التحقيق في قضية شبكة الانحراف في اوترو.
الاحالة الى محكمة جنايات سان ومار Saint-Omer
بعد انتهاء التحقيق احيل 17 شخصا الى محكمة جنايات سان ومار لمحاكمتهم. استأنف محامي تسعة متهمين القرار امام غرفة التحقيق مؤسسين على ضعف بعض الشهادات وعلى الكثير من التناقضات في الملف, مطالبين بقرار ان لا وجه للمحاكمة non-lieu. أعلن فرانك بيرتون محامي اوديل مارسوا امام غرفة التحقيق في محكمة الاستئناف : هذا الملف هو ملف الاكاذيب وسينهار في الجلسة" . " اذا احلتم هؤلاء السبعة عشر شخصا امام محكمة الجنايات سيكون ذلك كارثة قضائية". كما حذرت الاستاذة بلاندين محامية دومينيك وايل قضاة غرفة الاستئناف بان "هذه القضية ترتكز على رمال سوف تتسرب من بين اصابعكم ".
في قرار بتاريخ 01 جويليه 2003 رفضت غرفة التحقيق طلب " الا وجه للمحاكمة" وقررت احالة السبعة عشر متهما الى محكمة جنايات سان اومر بتهمة "اغتصاب مشدد" او " اغتصاب مصحوب بتعذيب, وافعال وحشية".
ولم تعير محكمة الاستئناف اهمية لطلبات وكيل الجمهورية الذي كان قد طالب بعدم محاكمة اثنين من المتهمين لضعف التهم الموجهة لهما. رغم ذلك قررت المحكمة ان شهادات الاحداث "مفصلة ومتماسكة, ومتطابقة".
في 4 ماي 2004 بدأت دعوى اترو امام محكمة جنايات سان اومر. 17 متهما ماثلون بتهم الاغتصاب المشدد او الاغتصاب المصحوب بالعنف والافعال البربرية. تهم لم ترتكز على اي دليل مادي سوى شهادات الاحداث واعترافات متناقضة لأربعة بالغين.
بدأت تتكشف الحقيقة شيئا فشيئا اثناء الجلسات. و بدأ الشك يتولد من محتويات ملف القضية. في المرحلة الاولى استمعت المحكمة لكل المتهمين.
في جلسة 10 ماي خرج تيري ديلاي والد الاحداث الاربعة لأول مرة عن صمته من خلال مجموعة اسئلة طرحها عليه رئيس المحكمة, مذكرا المتهم بما اعترف به ابناؤه. انكر المتهم الوقائع. وعند استجوابه من قبل المحامي العام اجاب اخيرا بقوله: " اعتقد باني مذنب".
عند تدخله قال محامي الدفاع للمتهم " عليك قول ما تعلمه". واخيرا قادت اسئلة المحامي المتهم الى الاعتراف: " هل اذيت ابناءك؟ ـ نعم. هل اغتصبتهم؟ ـ نعم. مرتين او 3 مرات في الاسبوع. نعم اغتصبتهم. متوجها في قوله الى المحكمة . معلنا براءة 13 متهما في القضية , ومؤكدا ان هناك اربعة فقط اغتصبوا ابناءه جنسيا. وان لا توجد شبكة انحراف جنسي. واتهم زوجته مريم باداوي بانها كانت تغتصب ابناءه مثله تماما.
أكدت مريم باداوي عند استجوابها من قبل المحكمة كل ما ادلت به سابقا من أقوال مصرة على اتهام المتهمين بما نسبته اليهم. وذهبت سدى كل محاولات محامي الدفاع في خلق اضطراب لديها أو تناقض في أقوالها.
في اليوم التالي حدث تحول كبير في الاعترافات, حين اعترف دافيد ديلبلانك, احد الاشخاص الاربعة موجهي التهم للثلاثة عشر متهما خلال 3 سنوات, بقوله " كنت اوزع الاكاذيب في كل الاتجاهات. اكذب بهذا الاتجاه وبالاتجاه الاخر لم نكن الا اربعة. نحن من اغتصب الاولاد". وشرح للمحلفين " لم اكن مرتاحا امام قاضي التحقيق فهذا الاخير اعطاني قائمة اسماء فقلت لنفسي هؤلاء فعلوها وبدأت اكرر هذه الاسماء".
في 13 ماي عند استجواب الثلاثة عشر متهما من قبل المحكمة اصر هؤلاء على انكار اي تورط لهم في اغتصاب الاحداث.
في 18 ماي وامام دهشة الجميع في محكمة الجنايات اعترفت مريم بادواي التي كانت تصر على توجيه الاتهامات يمنة ويسرى طلية فترة التحقيق لأشخاص ابرياء, بانها كانت تكذب طلية الوقت: " انا مريضة, انا كاذبة, لقد كذبت على الجميع". لقد كذبت كي اساند اقوال ابنائي" . وبانها كانت تريد الانتقام من بعض الاشخاص الذين كانوا اكثر سعادة في حياتهم منها. ثم استدارت نحو ال 13 متهما وبرأتهم واحدا واحدا. وفي اليوم التالي قالت اورلي كرينون التي اتهمت هي بدورها العديد من الاشخاص بقولها " اتهمت هؤلاء الاشخاص لأني سمعت مريم باداوي تذكر اسماءهم".
في 24 ماي بعد ان كانت مريم بادواي قد برأت المتهمين مما نسبته اليهم عادت لتتهم 12 منهم معلنة امام المحكمة " اولادي لم يكذبوا, كنت موجودة ورأيت كل شيء, لم ادمر حياة المتهمين ولكنهم هم الذين دمروا حياة ابنائي, كل المتهمين, عدا السيد كودار اشتركوا في الاغتصاب".
في جلسة مغلقة اعلن احد ابناء ديلاي بانه اغتُصب من قبل والديه وبعض المتهمين. امام هذه الاتهامات والتراجع عنها ثم العودة لتأكيدها اعلن احد محامي الدفاع عن المتهمين انه لا يمكن ترك " حياة 13 شخصا بيد انسانة مجنونة".
خبرة نفسية منازع فيها:
في 4 جوان استمعت المحكمة للخبراء والاطباء النفسيين الذين كانوا قد كلفوا بإجراء خبرة نفسية في مرحلة التحقيق. حاول محامو الدفاع التشكيك بكثير مما ورد في شهادتهم امام المحكمة. ولإثبات ان الاطفال مثل الكبار يمكن ان يكذبوا, استشهدوا بالخبير الان ليليه الذي قال : "يمكن ان يكون الطفل ذو مصداقية ولكن هذا لا يعني بالضرورة انه يقول دائما الحقيقة ".
علق رئيس المحكمة الجلسة لان " مظاهر النزاهة والاستقلال غير مجتمعة في السيدة كيرسون ديجانسارت" الخبيرة النفسية. وبناء على طلب الدفاع رد الرئيس الخبرة وامر بإجراء خبرة جديدة على الاحداث, وعين لها خبراء جدد . جاءت شهادات هؤلاء اقل صرامة من شهادات سابقيهم فيما يتعلق بمصداقية الاحداث. مما اثار الشك في الخبرة التي قدمت في فترة التحقيق. وحول سؤال الخبراء والاطباء النفسيين عن مصداقية الشاكية مريم باداوي أجابوا بان المصداقية موجودة ولكن لا يعني هذا انها بالضرورة تقول الحقيقة. مضيفين انه يمكن لشخص الاستمرار بالتمسك بأقوال متماسكة ومنطقية رغم كونها كاذبة. وبدا للمحكمة ان الشاكية مريم باداوي شخصية معقدة يصعب التمييز في تصريحاتها بين الحقيقة والكذب.
استمعت المحكمة في 9 جوان لقاضي التحقيق الذي حقق في ملف القضية , القاضي الشاب بوركود فأجاب على الاسئلة بهدوء ودون خطأ. وكيف انه قاد التحقيق بتقنية, و دافع عن طريقة عمله ,مؤكدا ان كل العناصر والمعلومات كانت تخضع للغربلة والتمحيص. " كان عملي التدقيق والتمحيص بكل ما استطاع الاطفال قوله, و اكده البالغون لاحقا. وكنا نتوخى الضمانات القصوى". طُرحت عليه اسئلة محرجة من أحد محامي الدفاع مثل : " هل قرأت او رأيت او سمعت المدلى به منذ بداية هذه الدعوى؟ هل تساءلت بصددها عن اليقين ؟" استبعد القاضي دون تردد هذا السؤال " ليس لدي شك في هذا الخصوص انا هنا اقدم شهادة قاضي التحقيق. اذا وُجدت اشياء جديدة ليس لي ان احكم بشأنها"..." كان لدي مهمة تقنية. حتى ولو اشعر بأشياء عديدة فليس لي الدخول هنا في نقاش بصددها".
حكم محكمة جنايات سان اومر:
في جلسة 24 جوان 2004 طلب المحامي العام جيرالد لسيني تبرئة 10 متهمين وادانة سبعة. وطلب للزوجين ديلاي والدي الاطفال الاربعة, الحبس الجنائي لمدة 18 عاما لكل منهما.
بعد مداولات دامت 15 ساعة اصدرت محكمة الجنايات في 2 جوليه 2004 حكمها le verdict :
ـ 20 عاما حبس جنائي لتيري ديلاي (والد الاولاد الاربعة) لاغتصاب 9 أطفال والاعتداء الجنسي على ستة اخرين, وللقوادة على اطفاله الاربعة و افساد 12 اخرين.
ـ 15 عاما حبس جنائي لمريم باداوي (زوجة تيري ديلاي وام الاطفال الاربعة, ومقدمة الشكوى والاتهامات) لاغتصاب سبعة اطفال والاعتداء الجنسي على عشرة اخرين, والقوادة على اطفالها الاربعة, وافساد12 اخرين.
ـ 6 اعوام لدافيد ديلبلانك (جار عائلة ديلاي) لاغتصاب اربعة اطفال والاعتداء الجنسي على ستة وافساد سبعة اخرين.
ـ 4 أعوام حبس جنائي لاورلي كيرنون (جارة عائلة ديلاي) لاغتصاب اربعة اطفال والاعتداء الجنسي وافساد سبعة اخرين.
ـ 7 اعوام حبس جنائي لدومينيك وايل لاغتصاب ثلاثة اطفال والاعتداء الجنسي على اثنين من اطفال ديلاي.
ـ 6 اعوام حبس جنائي لفرانك لافييه لاغتصاب زوجة ابنه والاعتداء الجنسي على اربعة احداث.
ـ 3 اعوام مع وقف التنفيذ لسادرين لافييه لافساد ثلاثة احداث.
ـ 18 شهرا مع وقف التنفيذ لان مارسو للاعتداء الجنسي على ابنه .
ـ 4 أعوام حبس مع وقف التنفيذ لتيري بوسك للاعتداء الجنسي على اثنين من أبناء ديلاي.
فور النطق بهذه الادانات صرح محامو المدانين بنيتهم بتقديم استئناف.
قضية اوتروا امام محكمة جنايات باريس:
في 13 نوفمبر 2005 افتتحت دعوى الاستئناف امام محكمة جنايات باريس للمدانين من قبل محكمة جنايات سان اومر.
في 17 نوفمبر وضعت محكمة جنايات باريس عمل الخبراء النفسيين الذين أكدوا مصداقية أقوال الاطفال, موضع الشك. فقد انهارت الاتهامات ضد رجل الدين دومنيك وايل عندما تراجع احد الاطفال, في جلسة مغلقة, عن اتهامه للمتهم المذكور قائلا بانه سمع شائعات في المدرسة حول ذلك.
بعد اعادة قراءة تقرير جان ليك فيو, أحد الخبراء لدى محكمة النقض, اكد هذا الاخير امام محكمة الجنايات انه يمكن ان يكون اخطأ عندما وصف اقوال الاطفال بالمصداقية.
في اليوم التالي اعترف المتهم الرئيسي تيري ديلاي (والد الاطفال الاربعة) قائلا بان المتورطين في الاعتداء الجنسي اربعة: هو وزوجته السابقة مريم باداوي وجيرانهم في البناية: اريال كيرون ودافيد ديلبلانك. مبرأ المتهمين الستة الواحد بعد الاخر: " اتمنى ان تتم براءة المتهمين الستة لانهم فعلا ابرياء". لم نكن في هذه القضية الا اربعة انا وزوجتي السابقة مريم باداوي ودافيد ديلبالانك و اريال كرينون". وتوجه نحو المتهمين طالبا منهم المعذرة. واعترفت اريال كرنون بانها كانت تكذب " لقد اتهمت الجميع كذبا" ثم نظرت في وجه كل متهم من الستة وقالت بانهم ابرياء.
واخيرا اعترفت المشتكية الرئيسة مريم باداوي (ام الاطفال الاربعة) التي اتهمت الجميع بان الاشخاص الستة المتهمين " لم يفعلوا شيئا". "ليس لهم اية علاقة بهذه القضية". وعندما سألتها السيدة موندينو ايدرار Mondineu-Hederer رئيسة محكمة الجنايات : " في اية لحظة يمكن ان نصدقك ايتها السيدة؟" اجابت المتهمة "الان". " اقول اني كذبت بصدد هؤلاء الاشخاص. اريد ان اطلب منهم الصفح. لقد ضاعوا بسببي. .. لقد مر الجنون براسي"..." ارجو ان تسمعني المحكمة وان تعيد الكرامة لهؤلاء الاشخاص".
شكك هؤلاء الاربعة الذين اتهموا الاشخاص الابرياء, بنزاهة قاضي التحقيق بيركود. اذ اعلنت مريم باداوي بان بعض الاتهامات كانت من وحي قاضي التحقيق. "فهو من ذكر امامي واوحى لي بأسماء شخصين لم ارهما في حياتي. وعندما اخبرته بانه يذهب في تحقيقه بالطريق الخاطئ, لم يأخذ اقوالي بعين الاعتبار. ولجأ الى التوقيف والمزيد من توقيف الاشخاص. وعندما كنت لا اذهب فيما يرى ويعتقد كان يثور ويغضب.
يوم 30 نوفمبر كان يوما مهما في حياة المتهمين, وفي تاريخ القضاء الفرنسي. سجل فيه ايف جانييه Yves Jannier المحامي العام لدى محكمة الاستئناف في باريس سطرا في عدالة ونزاهة القضاء, ورد الاعتبار لمن سبق ان جردوا من كل اعتبار. فجاءت مرافعته مفاجأة للجميع عندما طلب البراءة للمتهمين الستة. وادان " غياب الانسانية" من العدالة تجاه هؤلاء المتهمين لخطأ ارتكب خلال التحقيق: " مصلحة المجتمع تتطلب قرارا لا لبس فيه. يجب ان يعيد للعدالة وجهها الحقيقي الصارم المحترم لمبادئ قانونا". ملتفتا الى المحلفين " عليكم, ان تعيدوا للماثلين امامكم الشرف حتى لا يخفضوا أنظارهم ورؤوسهم وهم داخلين الى اوترو". واستنكر سوء تطبيق الاجراءات والاخطاء الصغيرة التي تكاثرت حتى قادت الى الانحراف بالقضية والغفلة وعدم الانتباه. وهاجم الاتهامات الباطلة, و الاعتراف الكاذبة بجرائم لم ترتكب, مثل كلام الاطفال. كما هاجم التحليلات غير الدقيقة للخبراء والاطباء النفسيين . واضاف: " كذب الاطفال في هذه القضية ". منهيا مرافعته بقوله:
" لا نستطيع اثبات اي من التهم التي وجهت للأشخاص الستة . انا لا أشك وانما انا متيقن". ثم توجه للمحلفين والمحكمة وطلب تبرئة المتهمين الستة ذاكرا كل منهم باسمه. مضيفا " تطلب النيابة البراءة لهم . وسوف تتابع المعركة ضد الظواهر الكاذبة وتزييف الحقائق".
في نهاية المرافعة, وفي مبادرة فريدة من نوعها, تقدم محامو الدفاع جميعا من المحامي العام وصافحوه وشدوا على يده. واعلنوا للمحكمة انهم يتخلون عن حقهم في المرافعة.
قبل انسحاب المحلفين للمداولة اعلن المتهمون الستة براءاتهم. بنفس العبارة: " انا بريء السيدة الرئيسة".
في فترة رفع الجلسة تحدث ايف بوت Yves Bot النائب العام في محكمة استئناف باريس للصحفيين معربا عن "اسفه" للأشخاص المتهمين, بسبب " الكارثة الحقيقية". وطالب ببراءتهم. " قضية اوترو ولدت الشك بالعدالة الفرنسية. يجب العمل على تحويل هذا الشك الى ثقة كاملة بها".
في 1 ديسمبر 2005 بعد 7 ساعات ونصف من المداولات اصدرت محكمة جنايات باريس حكما ببراءة المتهمين الستة في قضية اوترو.
خرج المبرؤون جميعا من قاعة المحكمة بعد سنوات من المعاناة, على تصفيق اهلهم واصدقائهم والحضور . وصرح الاستاذ جان لويس بيلاتيه محامي دومنيك وايل : " لقد تمت تبرئتهم واعيد الاعتبار لهم... نحن فخورون بهم, وفخورون بكوننا محاميهم".
وبذلك انتهت قضية اوترو. قضية قضائية لم يسبق لها مثيل في القضاء الفرنسي. قدمت كل السلطات العليا في الدولة, رئيس الجمهورية, الوزير الاول, ووزيري العدل السابق والحالي, الاعتذار علنا للأشخاص الثلاثة عشر الذين اتهموا فيها. وتم استقبالهم في وزارة العدل للاعتراف رسميا وعلنا بالأخطاء التي ارتكبت في تلك القضية.
ارسل رئيس الجمهورية رسائل شخصية لكل من الاشخاص الثلاثة عشر الذين اتهموا في القضية, مقدما لهم اعتذاره الشخصي: " باسم العدالة, التي انا حارسها, اقدم لكم اسفي واعتذاري في القضية التي ستبقى كارثة غير مسبوقة". وجاء في رسالته لصديقة فرنسوا مورماند الذي انتحر في السجن: " فرنسوا مورماند لم يعد بيننا ليرى تبرئته. هذا بالنسبة لنا مأساة لا شيء يمكنه محوها".
أمام خطورة القضية اقرت الجمعية الوطنية الفرنسية بالإجماع في 7/12/2005 قرارا بتشكيل لجنة برلمانية تكلف بالبحث عن الاسباب التي أدت الى الخلل الوظيفي في سير العدالة في قضية اوترو.
في جلسات متعددة علنية ومتلفزة في غالبيتها. استمعت اللجنة للأشخاص الذين تمت تبرئتهم, ولقاضي التحقيق بيركود. واستمعت للعديد من التحليلات والتعليقات والمطالعات الواسعة والعميقة من قضاة ومحامين ورجال قانون وسياسيين. واصدرت تقريرا علنيا في 6 حزيران 2006 يحلل كل مراحل قضية اوترو, قدم اقتراحات يتعلق الكثير منها بمظاهر النظام القضائي, وخاصة الاجراءات الجزائية لتجنب تكرار ما حدث.
ــــــــــــ
مراجع: أخطاء قضائية كبرى. اوليفييه بروست ومجموعة من المؤلفين : دار نشر PRAT 2006
اوترو ماري كريستين و كريسون ديجانسارت. منشورات هيكو. 2009.